ربما يعرف بعض القراء هذا العنوان "بين القصرين" كعنوان لثلاثية نجيب محفوظ الرائعة لكن ليتأكد نجيب محفوظ يرحمه الله وقراؤه الكرام أني أحكي عن قصرين آخرين , و إن كان عنوان "بين القصرين" صادف هوى في نفسي, إذ ربما كان بإمكاني اختيار عنوان آخر. فقبل فترة لفت انتباهي تصريح لأحد السياسيين الموريتانيين - و بغض النظر عن طبيعة كلام هذا السياسي من جد أو هزل - فمضمونه يوحي أن لاشيء تغير في حياة الرئيس الموريتاني المخلوع سيد ولد الشيخ عبد الله سوى أنه انتقل من قصر إلى قصر يقصد من القصر الرئاسي إلى قصر المؤتمرات , مثل هذا التصريح يلقى قبولا واسعا حتى في قلوب الذين عارضوا ولد الشيخ عبد الله قبل تسلمه للسلطة, فهو ينبئ عن حسن المعاملة التي يتلقاها ولد الشيخ عبد الله في قصر المؤتمرات, كما يشير إلى محدودية الصلاحيات التي كان يمارسها . لكن عبارة انتقل من قصر إلى قصر ذكرتني ب ....لا أعرف بما ذا ذكرتني لأني أحسست حينها بقشعريرة و برودة سرت في جسدي, ذكرتني بالموت حيث هي الأخرى الانتقال من دار إلى دار..
المبادرات التي طرحت لحل الأزمة الموريتانية أبرزها حلان, أحدهما جاء من خارج موريتانيا وقد اقترحه الاتحاد الإفريقي, ويقضي بأن يعود ولد الشيخ عبد الله إلى السلطة ثم يقدم استقالته، وتنظم انتخابات رئاسية طبقا للدستور. المبادرة الأخرى طرحها مسعود ولد بلخير وهو من أنصار ولد الشيخ عبد الله وتقترح عودة ولد الشيخ عبد الله إلى السلطة لفترة محدودة وتأمين مخرج لائق لولد عبد العزيز مع السماح له بالترشح. كلتا المبادرتين تلاشت في ظل إصرار خصوم ولد الشيخ عبد الله على أن رجوعه إلى القصر الرئاسي يعتبر خطا أحمر.
خلف الكواليس و في قصره الجديد - قصر المؤتمرات - يستيقظ ولد الشيخ عبد الله كل صباح ليستذكر أحلام النوم عله يجد من بينها حلما يعيد له بعض الأمل في استرجاع كرسيه المسلوب , وقبل تمام الثامنة صباحا - كما يتداول سكان نواكشوط- يستعد ولد الشيخ عبد الله في حلم من أحلام اليقظة لمغادرة قصر المؤتمرات ليزاول عمله في القصر الرئاسي, وحينما يصطدم بقرار منعه من الخروج سرعان ما يستسلم بعد أن يوقع له الحراس في مذكرة خاصة على أنهم منعوه من مزاولة عمله كرئيس منتخب , الطريف في الأمر أن أنصار ولد الشيخ عبد الله يعتبرون هذا التصرف دليلا على قوة الإرادة والعزيمة والصبر والثبات. في حين يرى خصومه أنه ضرب من ضروب الخرف .
ربما يقر ولد الشيخ عبد الله وولد عبد العزيز كلاهما للآخر انه شريكه في حكم موريتانيا , وربما يشهد لهما الشعب على ذلك. واليوم وقد شاب علاقتهما خلاف انتهى بمرسوم إقالة الجنرالات الشهير الذي مثل القطرة التي أفاضت الكأس والقشة التي قصمت ظهر "الديمقراطية" الوليدة، فلعلنا بحاجة إلى مرسوم آخر يصلح ما "أفسده" الأول، أو يفسد ما "أصلحه" وفق رؤية الطرف الآخر الذي يعتبر أن المرسوم "المشؤوم" كان خطوة الرئيس الأولى في الاتجاه الصحيح .
وفي الوقت الذي يعتبر فيه العسكريون رجوع ولد الشيخ عبد الله لكرسي الرئاسة خطا أحمر ويبدون استعدادهم للتفاوض فيما دون ذلك, لا يقبل أنصاره والمدافعون عن "النظام الديمقراطي" إلا بعودته معززا مكرما باعتباره الرئيس الشرعي والمنتخب للبلاد، بينما يرى تيار ثالث أن العسكر لم يتركوا السلطة أصلا على اعتبار أنهم من أتى به منتخبا وأخرجه منقلبا عليه، مستدلين على ذلك بإقرار الرئيس سيدي نفسه بدعم العسكر له في الانتخابات خلال مقابلة صحفية قبل الانقلاب، ومن ذلك المنطق يكون العسكريون قد استرجعوا منه "وديعة" لم يعجبهم تصرفه اتجاهها.. وهكذا تتشابك خيوط الأزمة وتتداخل، وتضيع مفاتيح الحل في ظل تدافع المسؤولية وصراع الولاءات والمصالح، ليبقى مصير موريتانيا معلقا بين القصرين! ِِ